بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله إذ بلَغنا رمضان غير سقماء ولا محرومين,ولا مرتدين عن ديننا ولا مغيرين ولامبدلين,
نحمده بأن كنا عبيدا مملوكين له, له الحجة علينا ولاحجة عليه لا نقدر أن نأخذ إلا ما أعطانا,
ولا أن نتقي إلا ماوقانا,نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه,له الحمد كالذي يقول,
وخيرا مما نقول,له الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله,له الحمد في الأولى والآخرة
وله الحكم وإليه المصير.
وأشهد أن لا اله إلا وحده لاشريك له,وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى
من اتبع هداه إلى يوم الدين....
أما بعد:
لقد جاءكم شهر رمضان محييآ بتحايا,تضفي إليه من الجلال جلالا,ومن البهاء بهاء,
أتاكم رمضان يحمل الجوع والعطش,ترى الطعام أمامك تشتهيه نفسك,تصل إليه يدك,
ولكنك لاتستطيع أن تأكله,ويلهب الظمأ جوفك,والماء من حولك,لاتقدر الارتواء منه,
ويأخذ النعاس بلبلك ويداعب النوم جفنيك,ويأتي رمضان ليوقظك لسحورك,
إنها ترادف حلقات الصبر والمصابرة,ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
{{الصوم نصف الصبر}} [رواه الترمذي , وقال حديث حسن].
فيا سعد الصائم,كيف ينال الأجر في ظمئه وجوعه عند من لايظلم مثقال ذرة:
(ذلك بأنهم لايصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولايطئون موطئا
يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم عمل صالح إن الله لايضيع أجر المحسنين)
[التوبة: 120]
لقد جاء رمضان,لينيب الناس فيه إلى ربهم,ويؤمو بيته,ليعمروها بالتراويح والذكر,
تمتلئ بهم المساجد,متعبدين أو متعلمين,والمساجد في الأقطار,حُفل بالعباد صفا واحد,
متراصة أقدامهم وجباههم على الأرض,سواء الغني أم الفقير,والوضيع والغطريف,
الصعلوك والوزير والأمير,يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة عزة على الناس كلهم,
إن حسن القصد واستصوب العمل,ولاغرو أيها المسلمون,إذ من ذل لله,اعزه الله,
ومن كان عبدا مطيعا جعله الله بين الناس سيدا, ومن كان مع الله في إتباع شرعه
والوقوف عند أمره ونهيه كان الله معه بالنصرة والتوفيق والغفران.
وبذلك عباد الله ساد أجدادنا الناس,وحازو المجد من إطرافه,
وأقامو دولة ماعرف التاريخ أنبل منها ولا أفضل,ولا أكرم ولا اعدل,
فماذا بعد الحق إلا الضلال,نعم,لم يكونو خواء,بل إنهم يذكرون إذا ذكر رمضان,
ويذكر رمضان إن ذكروا,فيه نزل القرآن على سيد البشر صلى الله عليه وسلم
وهو لعمر الله حياة الناس عند الموت,ونورهم عند الظلمة.
شهر الانتصارات والفتوحات:
وفي رمضان نصر الله المؤمنين ببدر وهم أذلة وسماه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان,
وفي رمضان فتحت مكة لنبينا صلى الله عليه وسلم فطهرها من وساوس الوثينة,
وأزاح منها كل قوى التقهقر والشرك,وفي رمضان فتح الله على خالد بن الوليد في اليرموك,
وعلى سعد في القادسية, وعلى طارق بن زياد في الأندلس عند نهر لنكه,
وعلى الملك قطز والظاهر بيبرس ضد جحافل التتار فقطع دابر القوم الذين ظلموا,
والحمد لله رب العالمين,وكذا حطين وجلو لاء,ورمضان فيه وفيه وفيه,
هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم وعلو الروح وعظمة النفس ورضا الله قبل كل شئ وبعده.
شهر الحب والوئام:
رمضان أيها الناس شهر الحب والوئام فكونو فيه أوسع صدر, واندي لسانا وابعد عن المخاصمة والشر,
وإذا ريأتهم من اهليكم زلة لسان فاحتملوها,إن وجدتم فرجة فسدوها وإصبرو عليها,
وإن بدأكم احد بالخصام فلا تقابلوه بمثله,بل ليقل أحدكم: إني صائم,وإلا فكيف يرجو من يمقت ذلك أن يكون له
ثواب الصائمين,وهو قد صام عن الطعام الحلال, وأفطر على ما سواه من الحرام قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : {{من لم يدع قول الزور والعمل به, فيس لله حاجة ان يدع طعامه وشرابه}}
[رواه البخاري.]
أن إمرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا عطشا فذكر ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيأ فقاءتا ملء قدح قيحا وصديدا ولحما,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم {{إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ماحرم الله عليهما,
جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس }} [رواه الإمام أحمد ].
فلا إلاه إلا الله ما أعظم هذا الجرم,ولا الاه ألا الله ما أعظمه من إنتهاك لحرمة الشهر,أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الناس في رمضان:
الناس مع رمضان أشتات غير منفقين عن اليمين وعن الشمال عزين,فمن الناس من لايرى في رمضان
أكثر من كونه حرمانا لافائدة منه,وتقليدا تعبديا,لامبرر له,فهم عازمون على الإفطار فيه,
مجاهرين بذلك أو مسرين,فهؤلاء حمقى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا,
وظنو أن الصوم كبت للحرية,التي تعني بداهة:انطلاق المرء المحموم وراء أهوائه وشهواته,
يعب منها دون حد أو قيد,كلاعباد الله فإن هذه حرية مغشوشة,وماهي إلا فوضى أولا,
والعبودية الذليلة للجسد الأخر.
والحق عباد الله أن الحرية هي تمام العبودية,وتحقيق العبودية لله وحده هي تمام الحرية والمسلم
الصادق عباد الله إنما هو حر الروح ولو أطبقت عليه الجدران,أو عاش في أرض فــقر,
هو حر ولو كبل بالحديد وجلد بالسياط,وهذه لعـمــر الله هي الحرية الحقة,
أللتي تليق بكرامة بني آدم,وأين منها حرية الأشباح والجسوم الخاوية:
(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على
نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) [الزمر:22]
وإن من الناس عباد الله من لا يرى في رمضان إلا جوعاً لا تتحمله أعصاب بطنه, وعطشاً لا تقوى عليه مجاري
عروقه،قد سئم ذكر رمضان، دخوله ثقل عليه، وتمامه عناء ووثاقاً مشدوداً أمام رغباته وشهواته، فهو يصومه
على مضض فهذا وأمثاله ممن فقدو لذة الإيمان وسرور الصالحين بالتسليم للخالق جل شأنه في أمره وحكمه
(وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) [القصص:68]
ولا يسعنا إلا أن نذكر بأمثال هاؤلاء,إن كان أهلا للذكرى,بما ذكره الحافظ بن رجب وغيلاه من أن ولدا لهارون
الرشيد كان غلاما سفيها,فما أقبل رمضان ضاق به ذرعا وأخذ ينشد:
أتاني صوم الشهر لا كان من شهر
ولا صمت شهرا بعده آخر الدهــــــر
فلو كان يعديني الأنام بقــــــــوة
على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فأصيب بمرض الصرع,فكان يصرع في اليوم اكثر من مرة,ومازال كذلك حتى مات قبل أن يدرك رمضان الآخر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها,وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الأخرة.
إن صنفا من الناس,يرى في رمضان موسما حوليا,للموائد الزاخرة بألوان الطعام وصنوفة,
وفرصة سانحة للهو والسمر,الممتدين إلى بزوغ الفجر,فصبحهم مثل ليلهم وأجواؤهم سود,
وأجفانهم جمر يومض,أناهم رمضان ومصائب المسلمين جمة,فآمالهم مد ألامهم جزر,
فغاية بر ها ؤلاء بالشهر,أن يكون محلا للالغاز الرتيبة والدعايات المضللة أو المواعيد المضروبة,
لأرتقاب مايستجد,منأفلام هابطة وروائيات مشبوهة,ترمي بشرر كالقصر,لأحراق مابقي من أصل حشمة,
أو تدين يستحق التشجيع والأذكاء,ولقد صدق الله:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف:103],
(وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) [يوسف:105].
المستفيدون من رمضان:
أما القلة من الناس وهم كثرة بحمد الله,يرون في رمضان شهرا غـــــير هذا كله,و أجل من هذا كله,
يرون فيه التهذيب الإلهي بالتقوى,والايثار الجميل والصبر الكريم,علموا أنه دروس يتعلمها الجيل,
لا يجدها المرء في المدارس والجامعات ,اللتي محلها تثقيف العقل لا تزكية النفس,وتنمية المعرفة,
لاتقوية الصلة بالله إلا من رحم الله.
هؤلاء عباد الله هم الذي يستفيدون من رمضان ,وهم الذين يجدون في نهاره لذة الرجولة والحرية الحقة والصبر
في الشدائد ,هاؤلاء وأمثالهم هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان,وتغلق عنهم أبواب النيران,
وهم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورة لهم ذنوبهم مكفرة عنهم خطاياهم ,سمو نفس,وشرف هدف,
ونبل غاية,وهداية قلب,أولئــك في الحقيقة هم الذين تصلح بهم الأوضاع,وتسعد بهم المجتمات,
وما أشد حاجة الأمة الأسلامية,إلى أمثالهم في كل عصر وفي كل مصر.
حال بعض الشباب في رمضان:
الشباب المسلم يصومون,نعم يصومون,ولكن كثيرا منهم يصومون عن القرى فحسب,
ويعيشون في رمضان سبهللا,دون إسنغلال او إشغال بما ينفع ويفيد,وإن بقائهم على هذه الحالة المزرية,
ينشئ مشاكل متوالية على الأسرة والمـــجتمع،بحيث لا يؤويهم إلا الطرق والممرات,فيزعجون هذا
ويوقظون هذا,ويلحظون هذه ويضايقون تلك,ونكون لهم الطرق بمصراعيــها,مأدبة إبليسية,تعلمهم كل بذئ
من القول وقبيـــح الفعل,ولسان حالهم يقول:صفدن شياطين رمضان إلا شياطينهم.
إننا بحاجة إيها المسلمون إلى مايقوم أخلاقهم,ويرفع من ثقافتهم ويحد من عبثهم وضياع أوقانهم سدى,
أن يقنعوا بأن العطالة موات,أنهم أحرى في أن يحشروا مفلسين,لاحصاد لهم إلا البوار والخسران.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام ,وإجعل لنا من هذا الشهر أوفر الحظ والنصيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.
أتمنى ان ينال الموضوع على اعجابكم